كمن يمشي بين الشوك، أكتب هذا المقال، أضع الكلمات بعناية مخافة سوء الفهم، إلا أن النية صادقة والقلب مخلص والرأي اجتهاد.
أصبحت ''التبرعات الخارجية'' في المجتمع السعودي موضوعاً حساساً، ولا ينبغي أن يكون كذلك إلا أن تداعيات 11 من (سبتمبر) وانتقال الإرهاب إلى الداخل السعودي كشف فيما كشف أن جزءا من التبرعات يتسرب لتمويل عمليات الإرهاب.
لقد كان أمام الحكومة السعودية ثلاثة خيارات لفك الارتباط بين التبرعات والإرهاب. الخيار الأول هو غض الطرف وإبقاء الأمر على كان عليه دون تدخل وهو ما لم يتم اختياره.
والثاني هو تنظيم العمل الخيري وما يتضمنه من ترتيب لعملية جمع التبرعات الخارجية، حيث تكون عملية شفافة وآمنة وهو كذلك ما لم يتم اختياره. كان أسرع الخيارات وأقصرها هو الخيار الثالث: منع جمع التبرعات لأي شأن خيري خارجي وهو ما تم تبنيه.
اليوم وبعد أكثر من عشر سنوات من أحداث (سبتمبر)، يبدو أن خيار المنع حقق كثيراً من نتائجه المتوقعة في التضييق على عمليات العنف، إلا أنه أيضاً ضيق على كثير من المظاهر الإيجابية وجفف كثيراً من الأعمال الخيرية السعودية في الخارج، حتى لا تكاد ترى للسعودي أثرا خيريا في العالم وقد كان يسد الأفق ويملأ المكان.
إن النظر لجمع التبرعات من زاوية أمنية فقط أغفل كثيراً من أبعادها الدينية والإنسانية والاجتماعية والنفسية. فحاجة الإنسان السعودي إلى التبرع كحاجته إلى الشراب والطعام، ليس لأنه مسلم يتعبد الله بالصدقة، وليس لأنه عربي تتجذر فيه قيم النصرة والإغاثة، وليس كذلك لأنه سعودي يُتوقع منه دور ريادي في الحقل الخيري العالمي، بل لهذا كله وأيضاً لأنه بشر جُبل على الرحمة وحب الخير.
هناك ثلاثة منطلقات تحكم معالجة صحيحة لعملية جمع وإرسال التبرعات للأعمال الخيرية في الخارج:
أولها النظر إليها بواقعية، فالتبرعات شيء لا ينبغي منعه، لكن يمكن تنظيمه فهو في الأصل عمل صحيح وإيجابي وقانوني. ولذا نجد أن الدول التي تزعم تأثرها بعلاقة التبرعات بالإرهاب كأمريكا وبريطانيا لم تمنع جمع وإرسال التبرعات حتى عن تلك المنظمات الخيرية الإسلامية التي تعمل على أراضيها.
وثانياً، أن ندرك أن التبرعات الحكومية ليست بديلة عن التبرعات الشعبية فأحد أبرز دوافع التبرع لدى الأفراد هو شعورهم بأن تبرعهم بالمال يزيح عنهم المسؤولية الذاتية التي يستشعرونها تجاه بعض القضايا الإنسانية أو الدينية سواء كانت داخلية أو خارجية. كما أن الدور المتوقع من الجهاز الحكومي هو ضبط عمل المنظمات الخيرية لا منافستها في جمع التبرعات من المجتمع.
ثالث المنطلقات وآخرها هو استحضار الظروف التي حدثت فيها تسرب جزء من التبرعات لدعم الإرهاب. فالمهتم المتابع يدرك أن تلك الفترة (ما قبل أحداث سبتمبر) لم يكن فيها تنظيم إداري محكم وتشريعات قانونية واضحة تحكم عمليات جمع التبرعات وإرسالها للخارج.
ولأن سن القوانين وتشريع الأنظمة من مسؤوليات الحكومة فإن على الجهاز الحكومي القيام بدوره المتوقع بما يحقق للمجتمع قنوات خيرية مجتمعية موثوقة وآمنة لجمع تبرعاتهم وإرسالها لأغراضها الخيرية.
ستظل التبرعات الخارجية موضوعاً حاضراً في ذهن الإنسان السعودي كلما حان وقت الزكاة أو هل هلال رمضان وكلما رأى مشهد الكوارث والنكبات وعندما تقع عينه على آيات الإنفاق وأحاديث الجسد الواحد وعندما يسمع عن سخاء إخوانه الخليجيين أو تمدد أنداده من أصحاب العمائم والقلنسوات.
الكاتب: إبراهيم بن سليمان الحيدري
المصدر: صحيفة الاقتصادية